يمتلك الإنسان عقلاً واحداً, إلا أن العقل يتسم بسمتين مميزتين, وهما غير متشابهتين بشكل جوهري, فكل مهمة لها خواص وسلطات مميزة تفصلها عن المهمة الأخرى.
والتسمية التي تستخدم للتمييز بين وظيفتي العقل هي:
العقل المحس والعقل الغير محس, العقل الواعي والعقل اللاواعي, العقل الظاهر والعقل الباطن, والكثير من التسميات الدارجة.. فما هي ميزة كل واحد منهما ؟
هل تذكر كم من المرات نسيت اسماً لشخص, أو بلد, أو مكان, ولم تستطع تذكره.. ولكنك فجأة, وأنت منشغل بأمر آخر, لا علاقة له بذلك الاسم, تتذكره وكأن أحداً أخبرك به ؟
وهل حدث أنك كنت أمام مشكلة مستعصية لا تستطيع لها حلاً, فإذا بك تجد الحل الذي كان غائباً عنك فجأة ودون سابق إنذار ؟
وهل تذكر كم من المرات كان ذهنك منشغلاً في مسألة وأنت تقود السيارة, وعقلك منشغل في حل مشكلة من المشاكل, أو في التخطيط لشيء ما, وفي الوقت نفسه تقود سيارتك بكفاية وأداء لا غبار عليهما ؟
كل ذلك كان بفعل العقل الباطن, أو العقل اللاواعي, فهو الذي أسعفك باسم الشخص أو البلد الذي نسيته..
وهو الذي أوجد الحل لمشكلتك المستعصية بعد أن أعطيته المشكلة ونسيتها..
وهو الذي كان يقود سيارتك, ويتحكم بيديك ورجليك وسمعك وبصرك وأنت (عقلك الواعي) منشغل بأمر لا علاقة له بالسيارة وقيادتها.
فهو مخزن الذكريات والمعلومات, يختزن تجارب الإنسان التي أخذها عن طريق حواسه وإدراكه.
وأيضاً العقل الباطن هو الذي يقود أحاديثنا ورؤانا وافتراضاتنا وقناعاتنا.. أما العقل الواعي هو الذي يصوغ حياتنا ومشاعرنا ونفسياتنا تبعاً لتلك الرؤى والافتراضات والقناعات, العقل الواعي كالفلاح الذي يضع البذور في التربة, والعقل الباطن كالتربة التي تحول البذور إلى ثمر.
العقل الواعي كقائد الطائرة الذي يوجهها ويقودها, والعقل الباطن كالمحركات التي تدفع الطائرة وترتفع بها آلاف الأمتار.
العقل الواعي يعمل في حالة اليقظة فقط, أما العقل الباطن فهو يعمل في حالة اليقظة والنوم, فهو الذي ينظم ويتحكم بالطاقة الجسدية, كالأفعال الغير إرادية.. مثل التنفس, ونبض القلب, والدورة الدموية والهضم.. وغيرها
وكذلك هو معقل العواطف والمشاعر, وهو سجل العادات الحسنه والقبيحة, كما أنه مستودع المهارات الحرفية وغير الحرفية, وبالتالي فهو الذي يوجه الميول والرغبات.
العقل الواعي يتعلق بالموضوع ويتعلق بالمنطق, يدرك السبب والنتيجة, ويتلقى معلوماته عن طريق الحواس, ويقابلها بما هو مخزون في الدماغ من معلومات سابقة, فيحلل ويركب ويستنتج ويستقرىء.
أما العقل الباطن فهو يتعلق بالذات, أي بالعالم الداخلي للإنسان, وهو لا يفهم ولا يمنطق ولا يميز بين الخطأ والصواب, إنما يعتبر كل ما لديه حقاً وصواباً ولا شيء غير ذلك.
العقل الواعي هو الموجه والمرشد الذي يقبل الفكرة أو يرفضها.. أما العقل الباطن فهو المنفذ الذي يقوم بتحقيق ما أقره العقل الواعي, فهو طاقة محايدة يمكن أن تغير حياة الإنسان إلى الأفضل, أو نحو الأسوأ, ويمكن أن يقود صاحبه إلى الخير أو الشر, كل ذلك يعتمد على ما يستقر فيه.
وبالتالي فإن الكثير من المفاهيم والأفكار الصحيحة, تتحول وتتحور إلى مفاهيم وأفكار خاطئة ومغلوطة ومشوشة, والعكس صحيح.
فكيف تتحور وتتبلور تلك المفاهيم بشكل مختلف تماماً عما كانت علية ؟
وكيف يتم النظر والتعامل مع الأنظمة والقوانين الحياتية..؟
.... منذ برهة من الزمن, كان الذي يضع حزام السلامة في مجتمعاتنا حينما يقود سيارتة يكون مثار للسخرية من قبل الناس.
وكذلك ومنذ نعومة أظفار أبنائنا, الطالب المؤدب والمجد, الذي يلتزم بواجباته المدرسية, ويحافظ على كتبه المدرسية في حقيبته, يكون أيضاً.. مثاراً للسخرية من قبل أصحابه وزملاءه.
وأيضاً حراكنا في التفاعل مع الفنون الإنسانية, الحديثة وغير الحديثة, وبشكل سلبي وعقيم, فمثلاً فن التمثيل ( السينما والمسرح ), وفن الموسيقى الراقي, والفن التشكيلي, وكذلك الشعر وغيرها من الفنون..
ما المانع أن نعمل على تأطيرها بشكل قويم وعلى تجييرها في سبيل قضايانا وأهدافنا.
...... ولكن كيف يتم لنا ذلك..!
والبيت الذي يوجد به آله موسيقية لا تدخلة الملائكة.. !
كذلك لماذا لا نغير نظرتنا للمرأة ومكانتها ولباسها وحجابها في مجتمعاتنا, لماذا لا نلجأ إلى الحجاب الشرعي الصحيح, فعلماء الإجتماع يعرفون كم عانينا من الويلات, بأمور وشرائع, وعادات بالية عملنا بها وما أنزل الله بها من سلطان..
..... ولكن أنى لنا ذلك وما زال الكثير وممن يحسبون علينا من رجالات العلم في مجتمعاتنا, عنوان محاضراتهم في العاشر من محرم ( أيهما أفضل لبس العباءة الكتف أم العباءة العادية ).. !
وأيضاً المنظور العام لتعدد الزوجات, وزواج المتعة...
والكثير.. الكثير .. من المفاهيم المغلوطة والمشوشة التي نمارسها في حياتنا من حيث نشعر ومن حيث لا نشعر.
إن الحياة اليومية للإنسان, والنشاطات المتنوعة له, والمعلومات التي يستقيها عن طريق الحواس, كلها تعمل على التأثير في العقل الباطن, ولكن هذا التأثير غير مبرمج وغير منظم.. أي أنه تأثير عشوائي.
وقد تكون هناك أنماط من التأثير في العقل الباطن تتصف بالرتابة والتراكم. منها البيئة وتشمل البيئة الطيبعية والبيئة الاجتماعية, فالبيئة الطبيعية كحرارة الجو وبرودته ورطوبته, وطبيعة الأرض صحراوية كانت أو جبلية, زراعية أو ساحلية, والكائنات الحية التي تحيط به من نبات وحيوان, كلها تؤثر في عقله الباطن, والتربية والتعليم, ومجموعة القيم والأفكار السائدة في المجتمع, وجو العائلة والعلاقات بين أفرادها, ووسائل الإعلام المتنوعة.
كذلك الإنتماء, فحينما يعلم الشخص أنه ينتمي إلى قوم اشتهروا بالكرم والسخاء فإن عقله الباطن يتأثر فيوجه الشخص لأن يكون كريماً دون أن يشعر, وإن قيل له إن قومك عرفوا بحدة المزاج فسيكون سلوكه متفقاً مع انتمائه ويصبح حاد المزاج.
ويظهر هذا الأمر جلياً عند بيان مزايا سكان مدينة, أو منطقة.
ومن العوامل المؤثرة أيضاً العواطف الحادة التي تمر بالإنسان فهي تؤثر بقوة في عواطفه, كفقد عزيز مثلاً, أو موقف إنساني مؤثر.
وأيضاً الشخصية ألمؤثره, سواء كانت شخصية دينية, أم سياسية أم علمية أم فنية, فإنها تؤثر في العقل الباطن.. وبالتالي تؤثر في تفكير الإنسان وسلوكه.
إلا أن تأثير هذه الوسائل في العقل الباطن هو تأثير تراكمي بطيء, يستغرق وقتاً طويلاً في أغلب الأحيان.
ويمكن تشبيه تأثير البيئة بالعقل الباطن بتأثير الرياح في تشكل الكثبان الرملية, أو تأثير المياه الجارية في نحت الصخور وتشكيلها.
والسؤال.. هل يمكننا أن نوجد طرق جديدة في التأثير على العقل الباطن.
وهل يمكن لنا التأثير في العقل الباطن بشكل مقصود ومخطط له, وبإرادة الإنسان ورضاه.. أقول نعم يمكننا ذلك.
فهناك عدة طرق حديثة تساعد على ذلك, ومنها تقنيات الهندسة النفسية والتنويم الإيحائي والعلاج بخط الزمن وغيرها.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية, كانت توجد كليه حربية خرجت الكثير من دفعاتها, من طيارين حربيين, وكانت مدة الدورة لتخريج الطيار تتجاوز الأربع سنوات, وبدراسة أعدها علماء في البرمجة اللغوية العصبية, استطاعوا تخريج دفعة من الطيارين في مدة لا تتجاوز السنة الواحدة, وبنفس كفاءة سابقيهم من الطيارين. كل هذا بفضل تقنيات الهندسة النفسية.
فهي تعمل على برمجة العقل الباطن بشكل سريع, فهي تشبه عمل فرق الهندسة والإنشاءات التي تقوم بشق الطرق وبناء الجسور, وتشييد البنايات, وتسوية الأرض.
أخيراً.. ذلك بتخطيط وتصميم, وفي فترة زمنية قصيرة, وبشكل محدود ومعروف مسبقاً, خلافاً للحالة الأولى التي تخضع لعوامل الطبيعة, وتستغرق وقتاً طويلاً, قد تصل إلى أجيال, أو قرون من الزمان.
ليست هناك تعليقات :